قال تعالي:
{ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا
أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ..... ( البقرة: 20 ، 21 ).
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـارَهُمْ أي:
يكاد نور القرءان لشدة ضوئه يعمي بصائرهم ، كما أن
البرق الخاطف الشديد النور يكاد يخطف بصر ناظره ، ولا سيما إذا كان البصر
ضعيفًا ؛ لأن البصر كلما كان أضعف كان النور أشد إذهابًا له.
وبصائر الكفار والمنافقين في غاية الضعف. فشدة ضوء النور تزيدها عمى. وقد صرح تعالى بهذا العمى في قوله تعالي:
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى }.
وقوله تعالي:
{ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ..... إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: يكاد البرق يخطف أبصارهم أي:
يكاد محكم القرءان يدل على عورات المنافقين.
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ }
ضرب الله في هذه الآية المثل للمنافقين بأصحاب هذا
المطر إذا أضاء لهم مشوا في ضوئه وإذا أظلم وقفوا كما أن المنافقين إذا كان
القرءان موافقًا لهواهم ورغبتهم عملوا به ، كمناكحتهم للمسلمين وإرثهم
لهم. والقسم لهم من غنائم المسلمين ، وعصمتهم به من القتل مع كفرهم في
الباطن ، وإذا كان غير موافق لهواهم. كبذل الأنفس والأموال في الجهاد في
سبيل الله المأمور به فيه وقفوا وتأخروا.
وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله:
{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ
الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ }.
وقال بعض العلماء:
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ }
أي:
إذا أنعم الله عليهم بالمال والعافية قالوا: هذا الدين حق ما أصابنا منذ تمسكنا به إلا الخير.
{ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ }
أي:
وإن أصابهم فقر أو مرض أو ولدت لهم البنات دون الذكور. قالوا: ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذا الدين وارتدوا عنه.
وهذا الوجه يدل له قوله تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ
الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }.
وقال بعض العلماء:
إضاءته لهم معرفتهم بعض الحق منه وإظلامه عليهم ما يعرض لهم من الشك فيه.
أشار في هذه الآية إلى ثلاثة براهين من براهين البعث بعد الموت وبيَّنها مفصلة في آيات أخر.
الأول: خلق الناس أولاً المشار إليه بقوله:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ لأن الإيجاد الأول أعظم برهان على الإيجاد الثاني ، وقد
أوضح ذلك في آيات كثيرة.
كقوله:
{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }.
وقوله:
{ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }.
وكقوله:
{ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ
فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى
أَن يَكُونَ قَرِيبًا }.
وقوله:
{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }.
وقوله:
{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }.
وكقوله:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ }.
وكقوله:
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ }.
ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي الإيجاد الأول ، كما في قوله:
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ }.
وقوله:
{ وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ }.
الدليل بقوله:
{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } ..... إلى غير ذلك من الآيات.
البرهان الثاني: خلق السماوات والأرض المشار إليه بقوله:
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاٌّرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَآءَ بِنَآءً لأنهما من أعظم المخلوقات ، ومن قدر على خلق الأعظم
فهو على غيره قادر من باب أحرى.
وأوضح اللَّه تعالى هذا البرهان في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }.
وقوله:
{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ
الْعَلِيمُ }.
وقوله:
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى
أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
وقوله:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ }.
وقوله:
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } ..... إلى غير ذلك من الآيات.
البرهان الثالث: إحياء الأرض بعد موتها ؛ فإنه من أعظم الأدلة على البعث بعد الموت ، كما أشار له هنا بقوله:
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاءَ بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
وأوضحه في آيات كثيرة كقوله:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً
فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي
أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
وقوله:
{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ }.
يعني: خروجكم من قبوركم أحياء بعد أن كنتم عظامًا رميمًا.
وقوله:
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ }.
وقوله تعالى:
{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ
لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ..... إلى غير ذلك من الآيات.
****************************
المصدر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.