المطبخ اليوناني القديم من المطابخ المميزة التي كانت تنتمي بشكل أو بآخر إلى مطابخ مناطق البحر الابيض المتوسط المتنوعة، لكنه على أهميته فهو من المطابخ الاقتصادية التي تعكس شقاوة الحياة الريفية والزراعية عبر العصور، ولطالما كان يعتمد على ثلاثة أسس متوسطية الطبع، وهي النبيذ والحنطة أو القمح وزيت الزيتون.
هذا بالطبع ما تشير إليه الدلائل التاريخية والفخاريات المتروكة منذ ما قبل الميلاد، فضلا عن الخرافات الاغريقية وأدبيات وكتابات اريستوفانيس في القرن الرابع قبل الميلاد وكتابات اثينياس وغيره من الأسماء المعروفة واللامعة في أثينا التاريخية القديمة.
وكان هذا المطبخ البسيط والمتقشف بالذات، والتقليدي جغرافيا، من أول المطابخ التي تعنى بطعام الرياضيين مثلا كما هو الحال الآن، وحاول كثير من المدربين إيجاد النظام الغذائي المناسب للرياضي أو المصارع أو العداء ليكون في أفضل حال جسديا ساعة التنافس.
وكان الرياضي المعروف بايكوس آنذاك أول رياضي في العالم يتبع نظاما غذائيا خاصا نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.
وكان المصارعون يكثرون من تناول اللحم والخبز، ربما بناء على نصيحة فيثاغوريس.
وقبل ذلك كان الرياضيون يتبعون انظمة غذائية مختلفة أو حمية مختلفة تعتمد أساسا على الفاكهة المجففة خصوصا التين والعنب والزبيب والجبن الطازج والخبز.
وتبدو بوضوح أهمية الخبز في الطعام اليومي. وبالطبع تطور عالم الغذاء الرياضي في تلك الفترة لدرجة أن أصبح هناك إرشادات محددة للمتنافسين في الألعاب الأولمبية وأهمها عند تناول الحلوى أو الكحول أو المياه الباردة إلا في أوقات محددة، ومع هذا بقيت اللحوم جزءا أساسياً من أي نظام لما تحتويه من بروتينات.
كما عرف أهل اليونان قديما وقبل الميلاد الظاهرة النباتية أو ما نعرفه حاليا بالـ «فاجيتيريانيزيم» (Vegetarianism)، وذلك عبر الأفكار الدينية خصوصا ما يعرف بالديانة «الأورفية» والمعتقدات «البيثاغورية».
وكلاهما يعتمد على مفاهيم تتعلق بالنقاوة والطهارة، ترفض وتحرم القتل بشكل عام خصوصا قتل الحيوانات لأسباب تتعلق بالروح وتداولها وانتقالها حسب هذه المعتقدات القديمة جدا.
وكان بعض من اتباع المعتقد «البيثاغوري» يأكلون فقط الخبز والماء ويزهدون بكل ما عداهما في القرن السادس قبل الميلاد حسب المعلومات التي تركها الرياضي بيثاغوريس نفسه.
وبعضهم كان يحرم أكل لحم الدجاج الأبيض وبعض أنواع الخضار أيضا مثل «الفول».
وقد ركز المؤرخ الروماني لويسيوس بلوتاركوس في كتاباته في القرن الأول على السبل الهمجية في قتل الحيوانات ليحث القارئ على التفكير والخيار بين أكل اللحم وغيره.
وحسب أفكار الايبيمينايديس الخرافية من جزيرة كريت في القرن السادس قبل الميلاد، فإن أسس النباتية توجد في هدية ديميترا لتريبتوليموس من القمح، ليعلم البشرية الزراعة.
وتقول وصاياه الثلاث:«أكرم اهلك» و«أكرم الآلهة بالفاكهة» و«أنقذ حياة الحيوانات».
ويقول الكاتب جون ويلكينس، إن الطعام لعب دورا كبيرا في المزاج اليوناني العام قديما وحسب ملحمة الأوذيسة فإن التمييز بين الرجل الخير من الرجل الشرير أو الغريب من القريب يتم على أسس غذائية، أي يعتمد على ما يأكلون وكيف يأكلون.
وكان المؤرخ اليوناني المعروف هيرودوتس يميز بين الأفراد اعتماداً على مآكلهم كما تؤكد الموسوعة الحرة.
اليونانيون القدماء أو الإغريق أحبوا مآكلهم وملذات الطعام، مع الكثير من البساطة كما سبق وذكرنا، ولهذا السبب على الأرجح نأوا عن المطبخ الفارسي واعتبروه فاسداً لطبيعته الفاخرة.
وعندما تعرف الكسندر المقدوني على طعام الملوك بعد هزيمة ملك الفرس داريوس الثالث في معركة ايسوس عام 333 قبل الميلاد، سخر الكسندر من الفرس ومآكلهم واعتبرها السبب في هزيمة جيشهم في المعركة التي توج نفسه بعدها ملكاً على آسيا.
ويبدو أن المطبخ الإمبراطوري الفارسي المتنوع والمتقدم والفاخر آنذاك، كان محط حسد من الاغريق الذين لم يعرفوا في مطبخهم حتى تلك الفترة إلا التقشف، بسبب الأحوال الجوية وقلة المحاصيل، وكثرة الأفكار الفلسفية التي تربط بين الطعام وحال الإنسان.
ولهذا السبب بالذات كانت المرأة سيدة الموقف في المطبخ الإغريقي في تلك القرون حتى بدأ العصر الكلاسيكي والشروع في الاحترافية والتدوين المطبخي.
ولذا ذكر اثينيوس الكثير من الطباخين في إحدى رحلاته إلى مدينة أثينا في القرن السادس قبل الميلاد أي أيام حكم سليسثينيس.
وقد تطور الوضع بعد ذلك وتغير من المرحلة الهلينية والرومانية خصوصا في القرن الثالث قبل الميلاد، حيث اصبحت الولائم الفاخرة جزءا من حياة النخبة والنبلاء والأغنياء والطبقة الحاكمة وأصبحت المآكل وأنواعها ومميزاتها مدار حديث الموائد.
وكان أهل اليونان يناقشون آنذاك أنواع الكحول والنبيذ واللحوم والخضار، وعرف منهم الكثير من الطباخين المعروفين أمثال سوتيريديس، وكان من مآكلهم الشهيرة السمك المحشو والقريدس والخس.
على أي حال فإن الإغريق عرفوا قديما ثلاث وجبات في اليوم كما هو الحال مع شعوب المتوسط، وكانت وجبة العشاء الخفيفة أهم الوجبات رغم أنهم كانوا أحيانا يستبدلونها بما يعرف في لبنان بـ«العصرونية» (أي وجبة العصر).
وكانوا يتناولون صباحا الخبز المغمس بالنبيذ مع الزيتون والتين أحيانا.
وعادة ما كان الغذاء سريعا. ولم يتناول الرجال والنساء الطعام معا، بل كل على حدة، وإذا كان المنزل صغيرا تكون الأفضلية للرجل، حيث على المرأة الانتظار على حد تعليقات أرسطو بهذا الصدد.
وعلى المائدة كان الإغريق يستخدمون الكراسي أو المقاعد أثناء تناول الطعام، كما تشير الرسوم على الفخاريات. وكانت الطاولات المستطيلة العالية للوجبات التقليدية والطاولات الواطئة للولائم.
وتقول الموسوعة الحرة في هذا الإطار، ان الإغريق لاحقا وفي القرن الرابع قبل الميلاد بدأوا يستخدمون الطاولات المدورة أو الدائرية وكانت أرجل الطاولات مستوحاة من أرجل الحيوانات.
ورغم وجود الصحون وانتشار الفخار، كانوا يستخدمون الخبز أحيانا كوعاء أو بديلا عن الصحون والقدر الجميلة.
وتطورت الصحون كما يبدو في الفترة الرومانية حيث ارتقت صناعتها لدرجة أنهم عرفوا الصحون الزجاجية الفاخرة والمعدنية المزخرفة والمذهبة.
ومن شدة التقشف كما سبق وذكرنا كان الإغريق قديما يستخدمون الخبز بديلا عن المحارم لمسح الفم أو بديلا عن الملاعق لتناول وسكب الطعام رغم توفر الملاعق خصوصا لتناول الحساء.
وفيما لم يعرفوا الشوكة آنذاك، ظلوا لقرون طويلة يستخدمون أيديهم وأصابعهم لتناول الطعام.
من المأكولات والأنواع التي كان يعرفها الإغريق الألبان والأجبان، لكنهم لم يعرفوا الحليب المطبوخ أو يستخدموه في الطبخ بل شربوه طازجا خصوصا أهل القرى الى جانب اللبن.
وكانت الأجبان على أنواعها البيضاء والصفراء الطرية والجافة متوفرة في كل المتاجر والمناطق، وكانت تستخدم للطبخ خصوصا في أطباق السمك، لكنها كانت تستهلك معظم الأوقات على حدة الى جانب العسل والخضار أو زيت الزيتون.
البيض أي بيض الدجاج والحجل والأرز المصري. وكانوا يعرفونه مسلوقا لفترة وجيزة ولفترة طويلة، واستغلوه لصناعة بعض الأطباق.
أما الخبز، فقد عرفه الإغريق القدماء كأحد أهم المواد الغذائية وكانوا يحضرونه مسطحا من القمح والشعير وأحيانا من دون أي إضافة وأحيانا مخلوطا بالعسل أو الجبن.
وكانوا يستخدمون خميرة النبيذ لتخمير العجينة قبل خبزها في أفران الطين المنزلية. لكن أسعار الخبز الذي يستخدم الخميرة كانت أغلى من أسعار الخبز العادي ولذا كانوا يلجأون إليه في الاحتفالات والولائم الهامة.
كما استخدموا لاحقا وأيام الفترة الرومانية الحجر الساخن لخبز العجين (عبر تسخين حجر ارض المنزل بالفحم الحجري).
وكانوا يحصلون على العجين بعد بل القمح بالماء قبل طحنه وسحقه.
وفيما استخدموا واستغلوا الذرة لصناعة الخبز، كانوا يحمصون الشعير بسبب ثقله على المعدة قبل طحنه وعجنه، ومع هذا لم يحصل على شعبية القمح والطحين العادي وبقي رمزا للفقر والشحة.
بالطبع، كانت اللحوم متوفرة خصوصا لحوم الماشية، لكن اللحم لم يكن متوفرا للجميع وكان غالي الثمن وحكرا على الطبقات العليا، وانتشار استخدامها كان يعتمد على المنطقة والطبقة الاجتماعية.
ففيما كان المزارعون يلجأون أحيانا الى تربية الطيور والدجاج في زرائب صغيرة كان الاغنياء يملكون المزارع والزرائب الكبيرة لتربية الماشية والطيور.
لكن بشكل عام انتشرت ظاهرة أكل اللحوم بكثرة مع انتشار ظاهرة الاحتفالات الدينية، خصوصا اللحوم المشوية والمملحة والمطبوخة.
ومع هذا كان اهل إسبارطة أكثر اليونانيين ولعاً باللحوم لدرجة انهم حرموا على الطباخين أحيانا طبخ أطباق الطعام من دون اللحم.
أما الأسماك فكانت تنتشر بالطبع في الجزر الكثيرة والمناطق الساحلية وكانت تنقل وحتى يومنا هذا يوميا طازجة الى اسواق العاصمة أثينا.
وكان السردين على انواعه الصغيرة والكبيرة من أشهر الأنواع التي تباع مملحة عادة، رغم انتشار سمك الخفش والبوري وابو سيف والتونا.
وعرف أهل اليونان أيضا تلك الأيام الكثير من أنواع الحبوب مثل القمح والذرة والشعير والعدس، بالإضافة إلى الحمص والفاصولياء والفول وشتى انواع البازلاء الحلوة والمحلية والملفوف والثوم والبصل.
وكانوا يأكلون معظم الانواع كحساء مع الخبز أو مسلوقة أو مهروسة، يضيفون إليها كما هو الحال حاليا مع الحمص الأعشاب وزيت الزيتون والخل.
ويقال ان الفاصولياء كان طعام هيريكليس المفضل، وكان الفقراء يستخدمون البلوط والزيتون الطازج والمجفف كثيرا، وكان الخضار في المدن غالي الثمن، لذا كان يلجأ سكانها كثيرا الى الخضار المجفف وأطباق العدس. كما كان الثوم والبصل والجبن من مآكل الجنود وكانت نبتة «الكرسنة» تعتبر طعام المجاعة.
أما الفاكهة طازجة ومجففة، كانت تستخدم فقط بعد الطعام وكحلوى.
وأهم الفاكهة آنذاك، الرمان والتين والعنب. وفيما كانوا يستخدمون الفاكهة كمازة الى جانب الكحول خصوصا النبيذ، كانوا يتناولونها مع الكسورات المحمصة والكستناء المشوية والحمص.
أما على صعيد الشراب وإضافة الى الحليب الطازج خصوصا حليب الماعز، فقد كان الاغريق مولعين بالماء الذي كان اكثر المشارب انتشاراً خصوصا مياه الينابيع التي كانت تنتشر في كل مكان آنذاك.
وكان الإغريق يضعون أوصافا كثيرة للماء مثل الماء الثقيل والحل والخفيف والمالح والحامض وغيره من الأوصاف المذاقية الكيميائية الكثيرة.
وأثناء بعض الفترات خصوصا أيام البيثاغوريين وبعض الاديان الاخرى ومع انتشار ظاهرة النباتية، كان معظم الفلاسفة في أثينا يشربون الماء من دون غيره أو أكثر من غيره من السوائل.
وكانوا يشربون النبيذ والحليب والماء بالأكواب المصنوعة من المعادن أو الخشب وأحيانا الطين.
على أي حال فإن المطبخ اليوناني القديم يختلف كثيرا عن المطبخ اليوناني الحديث في الكثير من النواحي، وهو بالتالي انعكاس للأوضاع والتطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وفي حالة المطبخ الحديث فقد تدرج مع المطبخ الروماني، أو الإيطالي، ولاحقا تلحق بالمطبخ التركي بشكل لم يسبق له مثيل، وأخيراً وبعد الحرب العالمية الثانية اصبح جامعا للمطبخ التقليدي والمطبخ الأوروبي المعاصر.